بقلم: أبو روح الله المنامي البحراني.
قال !: {وإذ قُلتم يا موسى لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرةً فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون} [1]
وفي آيةٍ أخرى: {ولمّا جاء موسى إلى ميقاتنا وكلّمه ربه قال ربِّ أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف ترني، فلما تجلّى ربه للجبل جعله دكّاً وخرَّ موسى صعقاً، فلما أفاق قال سبحانك تُبتُ إليك وأنا أول المؤمنين} [2].
هذه آيتان مباركتان تذكر حادثة نبيِّ الله موسى o وقومِه والطلب برؤية الله !، وفي النقطة الأولى التي قدّمنا بها البحث، أثبتنا بالدليل العقليّ أنَّ رؤيةُ الله مستحيلة لا في الدنيا ولا الآخرة، وأنّه ليس أمراً ممكناً، لوجود الكثير من الملازمات الفاسدة، منها إثبات كونه ! جسماً مادّيّاً، وهذا اللازم الفاسد بيّنّا وجه فساده وبطلانه، ويمكن مُراجعة كتب علم الكلام والفلسفة عند الشيعة الإماميّة ليتضح مزيد بيان فيها.
بعد التسليم باستحالة رؤية الله ! نقول: إنّ نبيَّ اللهِ أجلُّ وأرفع مقاماً من أن يطلبَ أمراً مستحيلاً، وإنما تفاصيل الحادثة تنصُّ على أنّ قوم موسى –وهم بنو إسرائيل-رفضوا الإيمان بموسى وبما نزل عليه من وحي أثناء رحلته إلى الميقات، ولمّا قال لهم النبي موسى بأنّ الله قد كلّمه من شجرةٍ تكليماً، قالوا: {لن نؤمنَ لك حتّى نرى الله جهرةً} فكان الطلب -أي طلبُ رؤيةِ الله من موسى o في الحقيقة هو طلب قومه، وليس لنفسه، وإلا فهو كان يعلم بأنّ الله لا يُرى، بل هو منزّه عن أوساخ المادّة وأحكامها.
والشاهد الذي يؤيّد هذا الجواب، هو ما قاله النبي موسى o {أتُهلكنا بما فعل السفهاء منّا}، وكانت هذه الآية في سياقها التالي:
{واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلمّا أخذتهم الرجفة قال ربِّ لو شئت أهلكتنا من قبل وإياي أتُهلكنا بما فعل السفهاء منّا} وباتفاق المفسّرين أنَّ هذا الخطاب كان بعد أن طلبوا من نبي الله موسى الرؤية، وتؤيّدها أيضاً قوله تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرةً فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون} وهذه الآيات وغيرها كانت في صدد بيان امتنان الله على بني إسرائيل وفضله عليهم.
والتساؤل الذي يُطرح كيف أنّ النبي موسى يعتذر إلى ربّه بفعل السفهاء، وهو يطلب هذا الطلب السفهي؟ هذا شاهدٌ على أنّ النبي منزّهٌ عن هذه المقولة، وإنما قومه لمّا عاندوا وأصرّوا على رؤيته، نزل عند طلبه.
والتساؤل الذي يُطرح كيف أنّ النبي موسى يعتذر إلى ربّه بفعل السفهاء، وهو يطلب هذا الطلب السفهي؟ هذا شاهدٌ على أنّ النبي منزّهٌ عن هذه المقولة، وإنما قومه لمّا عاندوا وأصرّوا على رؤيته، نزل عند طلبه.
هذا الجواب الأول الذي ممكن أن يُقال في هذا المورد.
الجواب الثاني: أنْ نقولَ بأنّ الرؤية ومشتقاتها، لا تُطلقُ على الرؤية الحسيّة فحسب، بل لها معنى آخرى مغاير للمعنى الحسيّ، وهو المعنى القلبي أو المعنوي. وأنّ طلبَ النبي موسى كان من القسم الثاني-أي المعنى القلبي والرؤية القلبية- وليس من القسم الحسيّ.
وقد ورد في القرآن الكريم بهذا المعنى في أكثر من آية نذكر منها:
- قوله تعالى: {قال ربِّ أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف ترني}[5].
فإن حرف {لن} كما يقول جمهور النحويين وعلماء العربية أنّها تُفيدُ التأبيد- أي أبداً لن تراني-، وسيأتي إن شاء الله مزيدُ بيانٍ حول هذه الآية المباركة.
وهناك أيضاً جملة من النصوص الشريفة الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة qالتي تؤكّد الرؤيةُ القلبيّة تارةً، وتنفي الرؤية الحسيّة تارةً آخرى.
نذكر منها ما يلي:
- عن هشام قال: كُنتُ عندَ الصادق جعفر بن محمّد o إذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين، فقال له معاوية بن وهب:
يا بن رسول الله ما تقول في الخبر المروي: أن رسول الله K رأى ربَّه؟ على أيِّ صورةٍ رآه؟ وفي الخبر الذي رواه؛ أنّ المؤمنين يرون ربّهم في الجنّة؟ على أيّ صورةٍ يرونه؟
فتبسّم ثم قال: يا معاويةَ، ما أقبحُ بالرجلِ يأتي عليه سبعون سنة وثمانون سنة يعيش في مُلكِ الله ويأكل من نِعمه ثم لا يعرف الله حقَّ معرفته.
ثم قال: يا معاويةَ، إن محمّداً K لم يرَ الربّ تبارك وتعالى بمشاهدة العِيان، وإنَّ الرؤيةَ على وجهين: رؤيةُ القلبِ ورؤيةُ البصر، فمن عنى برؤية القلب فهو مصيبٌ، ومن عنى برؤية البصر فقد كذب وكفر بالله وبآياته، لقول رسول الله K: مَنْ شبّه اللهَ بخلقه فقد كفر.
- عن مولانا الإمام الكاظم عن آبائه قال: سُئل أميرُ المؤمنين فقيل له: يا أخا رسول الله هل رأيت ربّك؟ فقال: لم أعبدْ ربّاً لم تره العيون بمشاهدة العيان، ولكن تراه القلوب بحقائق الإيمان.
- وعن أمير المؤمنين عندما سئل: لم أعبد ربّاً لم أره، وفي النهج عنه o: لم تره العيون بمشاهدة الابصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.
- التوحيد للشيخ الصدوق بإسناده عن أبي بصير عن الصادق o قال: سألته عن الله ! هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟
قال: نعم، وقد رأوه قبل يوم القيامة، قلتُ: متى؟ قال: حين قال لهم: {ألست بربّكم؟ قالوا بلى} ثم سكت ساعة ثم قال: وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، ألستَ تراه في وقتكَ هذا؟
قُلتُ (أي الراوي أبو بصير): فأحدّث بهذا عنك؟
فقال: لا، فإنّك إذا حدّثت به فأنكره منكر ٌ، جاهلٌ بمعنى ما تقوله ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عمّا يصفه المشبّهون والمُلحدون.
في هذه الرواية عن مولانا الصادق o الذي كان يُخاطب عالم وفقيه من فقهاء الشيعة آنذاك، وهو أبو بصير الليثي، وفكان من أجلاء أصحاب الإمام الباقر والصادق p، نجد أنّ الإمام o يخاطبه بحسب مستواه وعقله، وعندما سأله: هل أحدّث عنك بهذا الحديث؟ نهاه الإمام o عن فعل ذلك، حتّى لا يلتبس على الجاهل وينكر الرؤية القلبية لقلّة وعيه وعقله، ثم ختم مولانا الصادق o بتنزيه الله تبارك وتعالى عمّا يوصفه المشبّهون والملحدون.
والروايات في هذا الصدد كثيرة جداً تصل إلى حد التواتر، بل هو أمر متسالم عليه عند أهل البيت q وشيعتهم تبعاً لهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق