الجمعة، يناير 14، 2011

إقامة الحكومة الإسلامية بين الأصل والفرع



قد يطرح البعض بأن لمنظومة الفقه الجعفري الإسلامي أصول وفروع، وفي تطبيق الفروع لابد من مراعاة أمر أهم وملاحظة الأصل، وكمثال لهذا الأمر نشبّه المنظومة الفقهية بالمدينة الواسعة التي تحتوي على طرق رئيسية أساسية وطرق فرعية، فمن يسير على الطرق الفرعية لم يفعل شيئاً خطأ، بل أنه سار فيه هو صحيح، ولكن المسار الذي سار فيه فرعية، وقد يكون هذا المسلك الفرعي يتعارض مع المسلك الرئيسي من ناحية وقوع التزاحم وتقديم المهم على الأهم.

وكتطبيق لهذه الفكرة نذكر هذا المثال:

 الصلاة على التربة الحسينية في مكة المكرّمة، فلا شك بأن الصلاة على التربة الحسينية من الأمور الثابت استحبابها لدى الإمامية، ولكن الصلاة في خصوص هذا المكان المبارك مع ملاحظة جانب التقيّة وتوهين المذهب الحق، فيفتي الفقهاء بعدم الجواز للعلة المذكورة.

مثال آخر: مسألة أخذ الأجرة على الأعمال المستحبة كـأجرة إمام الجماعة، فإن الفقهاء يُفتون بأنه يجوز أن يأخذ الإمامُ الراتبُ على إمامته للصلاة، خصوصاً إذا كان هذا الراتب من الحقوق الشرعية أو من الأوقاف الخاصة بأئمة الجماعة. ولكن عندما تقترن هذه الأجرة مع سلطة (بغض النظر عن نوعية هذه السلطة هل عادلة أو جائرة) فيقولون الفقهاء بعدم جواز ومشروعية أخذ الراتب، حتى لا يكون المسجد أو دور العبادة تحت نظر الحكومة، أما بالنسبة إلى الحكومة الجائرة فواضح السبب، وأما بالنسبة إلى الحكومة العادلة والإسلامية فإن وظيفة الإمام تكون محصورة في إطار ضيّق جداً، وقد يتحوّل النظام العادل إلى نظام جائر أو منحرف، فمن يضمن لهذه الوظيفة (إمامة الجماعة) استقلاليتها عن السلطة؟!

من هذه المقدّمة يتضح المراد من الأصل والفرع في إطار العنوان العام المذكور.

بعد هذه المقدّمة نسأل هذا السؤال: هل إقامة الحكومة الإسلامية تعتبر من الأمور الأصيلة في الشريعة الإسلامية أو أنها من الأمور الجانبية والفرعية؟

من يرجع إلى سيرة أهل البيت (عليهم السلام) قد لا يجد أهمية كبيرة لإقامة حكومة إسلامية، بل في بعض فترات الأئمة (عليهم السلام) يصعب على الإمام المعصوم البوح بحكم شرعي مخالف للرأي العام السائد، فكيف بحكومة إسلامية علوية؟

 فقد يُفهم من هذه السيرة الممتدّة من زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) حتّى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عدم وجود أي دلالة لأهمية إقامة حكومة إسلامية.

فهل هذه الفكرة  صحيحة أو لا؟

في مقام الجواب على هذا الإشكال نقول:

 إن سيرة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) مختلفة من فترة لأخرى، ففي بعض الفترات أمكن نشر العلم وآخرى في نشر التشيّع وأقلّها في  المحافظة على الجماعة الصالحة والمؤمنة من خلال التصدّي للشبهات والمعضلات مع مرور الزمن، وفيها بعض الأحيان يتمثّل تصدّي المعصوم (عليه السلام) للمحافظة على الإسلام.

فلا يمكن أن نلحظ جانب من سيرة الأئمة (عليهم السلام) ونترك جانب آخر. خصوصاً مع ملاحظة بعض الأمور منها:

1- إنَّ من يُلاحظ ويقرأ المنظومة الفقهية وخصوصاً قسم المعاملات من الفقه يجد أن تطبيق هذه الأحكام الشرعية يحتاج إلى سلطة لمن يريد أن يطبّقها، وخصوصاً المسائل المرتبطة بالحاكم الشرعي، لا يقول أحدٌ بأنه يمكن للفقيه أن يطبّق هذه الأحكام. لأن بعضها تحتاج إلى بسط اليد حتّى يمكن تطبيقها من قبيل تطليق الحاكم بدل الزوج ، أو إقامة الحدود والتعزيرات. فهل تبقى هذه الأحكام في طي الكتب حتّى يخرج الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ليطبّقها.

إذن، ما هي فائدة هذه الأبحاث وهذه التشريعات؟ وهل جاءت الشريعة لكي تُطبّق أم لأجل قرائتها وننتظر في آخر الزمان يأتي من يطبّقها؟

 وهذا قولٌ لا يقوله عاقل يفهم مُرادات الشريعة والغاية من إرسال الرُسُل والأئمة.
2- أيضاً من يُلاحظ أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عاش في فترة نبوّته في فترتين مهمّتين:

الفترة الأولى: وهي مدة إقامته في مكّة المكّرمة، وهي الفترة الأكبر من بعثته وتمتد إلى ثلاثة عشر سنة.

الفترة الثانية: وهي مدة إقامته في المدينة المنوّرة، وهي من زمن هجرته من مكّة إلى المدينة ما يُقارب عشر سنوات.

نلاحظ بأن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في الفترة الأولى كان مضطهداً فيها مع بقيّة المسلمين الأوائل، حتّى عقد البيعة (بيعة العقبة الأولى والثانية) مع بعض أهل المدينة (وهم الأنصار) وأرسل معهم مصعب بن عُمير حتى يعلّمهم ما نزل من القرآن الكريم وأحكام الدين. وبعدها شيئاً فشيء تمهد الأمر للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) حتّى يُهاجر إلى يثرب آنذاك ويستقر فيها.

 ومن يُلاحظ بأن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أوّل ما شرع فيه هو بناء المسجد وشيئاً فشيء حتّى أسس الدولة الإسلامية الفتية. ممّا يعكس مدى أهمية الحكومة الإسلامية لتطبيق الشريعة فيها.

لو سألنا هذا السؤال: لماذا لم يُقِمْ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الحكومة الإسلامية في مكة المكرّمة؟

عندنا احتمالان:

الإحتمال الأول: إن إقامة الحكومة الإسلامية ليس أمراً ضرورياً، بل هو أمر فرعي جانبي ( وهي الدعوى المُراد الردّ عليها).

الإحتمال الثاني: خضوع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) للظروف المحيطة به.

أما الإحتمال الأول: فهو باطل... لماذا؟ لنفس العلّة في تطبيق الشريعة الإسلامية، وأنها تحتاج إلى يد مبسوطة حتّى تتم الغاية من هذا التشريع ولأمور آخرى أيضاً.

يبقى الإحتمال الثاني: أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان يُراعي الظرف الذي يعيش فيه، ولهذا السبب لم يتمكّن من إقامة الحكومة في مكة المكرّمة.

 الخلاصة:

 إن المقتضي في إقامة الحكومة الإسلامية موجود في النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) من قبيل الكفاءة والوعي والقدرة على إدارة الأمور، ولكن حتّى يتحقّق إقامة الحكومة لابد من رفع الموانع. وأمّا مع وجود المانع من إقامة الحكومة الإسلامية فلا يمكن تحقق المُراد.

 ولا أحد يقول بأن الحالة الأصلية في حياة الأئمة (عليهم السلام) هي جانب التقيّة فقط.

لا. لأن التقيّة شُرّعت من أجل المحافظة على المجتمع الإسلامي في حالة وجود ضرر أو خوف. ولا يمكننا أن نجعل الحالة الطارئة هي أصل وأساس تُبنى عليه الشريعة الإسلامية.

 ولو كانت إقامة الحكومة الإسلامية أمراً فرعيّة غير أصيل، لما كانت الحاجة إلى دولة الإمام المهدي (عج) لأنّها فرعية وغير أساسيّة.

ليست هناك تعليقات: