تميزت الطائفة الشيعية بأمورٍ عدة، وأصبحت هذه الأمور خاصة بالمذهب الحق، من قبيل أن الإمامة هي منصب إلهي رباني خاص جعله الله لخاصة أوليائه، فاختارهم وانتجبهم وجعلهم خلفاء في أرضه.
فهذا أمر، وهذه ميزة تميزت بها الطائفة المحقة، وهي أهمية منصب الإمامة وخلافة الأرض، وأن هذا المنصب هو منصب إلهي؛ أي أن الله سبحانه وتعالى يجعله لمن أراد ولمن شاء بأمره وحكمته وتدبيره.
الميزة الأخرى التي تميزت بها الطائفة أيضاً هي استقلالية الطائفة عن السلطات الحاكمة الظالمة، فعندما نتتبع التأريخ الشيعي من حين نشأته ، نلاحظ بأن إمام الشيعة (علي ابن ابي طالب) واتباعه كانوا على طرفي نقيض في الخارج وفي العقيدة والمبدأ. وهم (أي إمام الشيعة مع أتباعه) كانوا على خط متوزاي في قبال السلطة الحاكمة الغاصبة منصب الإمام الشرعي.
وإذا تأملنا أيضاً الإمام الثاني من أئمة مذهب أهل البيت (ع)؛ الإمام الحسن المجتبى (ع) ، نراه أيضاً قد وقف موقف تجاه الحكومة والسلطة، وهو موقف الرافض للحاكم ولسياسته الخبيثة. وكذلك موقف اتباعه وشيعته الموالين له.
وهكذا الإمام الحسين (ع)، والإمام السجاد، والإمام الباقر فالصادق فالكاظم وبقية الأئمة المعصومين (ع) ، كانوا جميعاً في خط واتجاه مخالف للسلطة آنذاك. وكانوا في بعض الأزمنة قد صرحوا بأحقيتهم لمنصب السلطة وفي أزمنة الأخرى، استعملوا التقية حفاظاًعلى أرواحهم وشيعتهم.
كان هذا الأمر واضحاً في زمن الأئمة المعصومين (ع)، ولكن ما هو موقف الطائفة الشيعية المحقة في زمن غيبة صاحب العصر والزمان (عج) ؟! هل جعل الأئمة المعصومون شيعتهم من غير قيادةٍ ليهتدوا بهديهم، ويسيرواتحت ظلهم؟! هل ترك أئمة أهل البيت أمر شيعتهم؟!
قال الإمام صاحب العصر والزمان (عج): "أما الحوادث الواقعة، فأرجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله، والراد عليهم كالراد علينا، والراد علينا كالراد على الله، وهو بحد الشرك بالله".
نعم، أنهم بينوا الطريق والمنهج، أنهم أوضحوا السبيل، أنهم ارشدونا في زمن غيبة صاحب الأمر (عج) أن نرجع لفقهائنا، الحاملين لتراث أهل البيت (ع)، الراوين لحديثهم، الناشؤين لشرائع أحكامه.
الخاتمة:
بعد هذا البيان والطرح، نصل إلى نقطة جوهرية بشأن هذه الميزتين، أن هذين الأمرين ليس أمراً جديداً في عقيدة الشيعة، بل هي راسخة وثابتة منذ زمن نشوء الشيعة.
وهذه الميزة تستمر في عقيدة الشيعة إلى يومنا هذا، فهم يعتقدون بأن منصب الإمامة منصب إلهي وله قدسية خاصة، وكذلك السائرون على نهج الأئمة (ع) (أعني الفقهاء) ، حيث أن الفقهاء اكتسبوا هذه القداسة وهذا الشرف العظيم لانتسابهم لأهل البيت ولتبيعتهم الواعية لأهل البيت (ع).
وكذلك استقالية فقهائنا عن السلطة الحاكمة الظالمة، فهذا أيضاً نابع وراجع إلى عقيدة راسخة اقتبسها الشيعة من أئمتهم الطاهرين.
الإمام الخميني الراحل (قدس سره) في كتابه تحرير الوسيلة يقول:
(...على العلماء سيّما ورؤساء المذهب أن يتجنّبوا مواضع التهم، وأعظمها التقرّب إلى سلاطين الجور والرؤساء الظلمة؛ وعلىالاُمّة الإسلاميّة أن لو رأوا عالما كذلك حملوا فعله علىالصحّة مع الاحتمال، وإلّا أعرضوا عنه ورفضوه، فإنّه غير روحانيّ تلبّس بزيّ الروحانيّين، وشيطان في رداء العلماء، نعوذ باللّه من مثله ومن شرّه على الإسلام).
وتأييداً لما ذكرناه سابقاً نقف مع بعض استفتاءات الإمام الخميني الراحل (قده) من كتابه تحرير الوسيلة، لبيان مواقف الفقهاء والعلماء من الظالمين ومعونتهم:
" مسألة 9: لو كان في سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب - أعلى اللّه كلمتهم - تقوية للظالم وتأييد له - والعياذ باللّه - يحرم عليهم السكوت، ويجب عليهم الإظهار ولو لم يكن مؤثّرا في رفع ظلمه ".
" مسألة 10: لو كان سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب -أعلى اللّه كلمتهم- موجبا لجرأة الظلمة على ارتكاب سائر المحرّمات وإبداع البدع يحرم عليهم السكوت، ويجب عليهم الإنكار وإن لم يكن مؤثّرا في رفع الحرام الّذي يرتكب ".
أما في ما يرتبط بالدخول في المؤسسات الدينية، والتي تكون تحت نظر الدولة والحكومة –بغض النظر عن نوعية الحكومة وهل هي عادلة أو جائرة فيقول:
" مسألة 13: لا يجوز لطلّاب العلوم الدينيّة الدخول في المؤسّسات الّتي أسّسها الدولة باسم المؤسّسة الدينيّة، كالمدارس القديمة الّتي قبضتها الدولة واُجري على طلّابها من الأوقاف؛ ولا يجوز أخذ راتبها، سواء كان من الصندوق المشترك أو من موقوفة نفس المدرسة أو غيرهما، لمفسدة عظيمة يُخشى منها على الإسلام ".
" مسألة 14: لا يجوز للعلماء وأئمّة الجماعات تصدّي مدرسة من المدارس الدينيّة من قبل الدولة، سواء اُجري عليهم وعلى طلّابها من الصندوق المشترك أو من موقوفات نفس المدرسة أو غيرهما، لمفسدة عظيمة على الحوزات الدينيّة والعلميّة في الآجل القريب ".
فإن هذه النظرة الدقيقة للإمام الخميني (قده) تكشف مدى ابتعاد الفقهاء والمؤسسات الدينية كالحوزات والمدارس عن سلطة أي حكومة كانت، حتى لو كانت حكومة إسلامية.
وهذا بعينه ما يذكره الإمام القائد الخامنئي (دام ظله) في كلماته، وننقل منها:
" إن الحوزة العلميّة هي جهاز علمي وديني، فلا يجدر بها أن تكون مؤسّسة حكوميّة، وهو ما لا يمكن أن يكون، حتى لو كانت هذه الحكومة هي حكومة الجمهورية الإسلاميّة ".
وفي نظيره يقول (دام ظله):
" إنني ما زلت أعتقد بأن كل من يتحرك باتجاه تحويل الحوزات إلى مؤسسات حكومية سيكون خائناً للحوزات العلمية، وذلك لأن المرء يصعب عليه أن يكون على ثقة بأن حكومةً موثوقاً بها ستكون دائماً على سدّة السلطة ".
" إن على الحوزة إدارة نفسها بنفسها ، وأن تكون مستقلة، كما يجب أن تكون مستقلة أيضاً على الصعيدين المالي والإداري".
ومن هناك يتّضح الفرق جليّاً لأصحاب الديانات الآخرى أو المذاهب الآخرى، فإن الكنائس ودور العبادة عند المسيحيين أو المساجد والمراكز الدينية لدى إخواننا من أهل السنة والجماعة تكون تحت نظارة الدولة والحكومة، فمن هنا لا نجد لها دور فاعل في المجتمع، لأنّها تفقد قيمتها أمام أنظار الناس، حيث أنّهم – أي العلماء أو طلبة العلم- يكونون مطيعين وخاضعين لهذه السلطة، حتى لا تقطع عنهم الرزق الذي يرتزقونه من الدولة. فتكون التبعية العمياء للدولة في كل ما تريده وتفعله، وهذا ما حذّر منه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) شيعتهم، من عدم الدخول في هذه الأنظمة الفاسدة والسلطات الظالمة إلا في موارد جداً يسيرة بحسب تشخيص إنسانٍ واعٍ.
أبو روح الله
مشاركة في ليلة الجمعة / المنامة : 14 أغسطس 2008 م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق