السبت، يناير 22، 2011

العلم الرضويّ



عظّمَ اللهُ أجورنا وأجوركم بشهادة سيدنا ومولانا أبي الحسن علي ابن موسى الرضا (عليه آلاف التحية والثناء)، ونعزّي مولانا صاحب العصر والزمان  uبهذه المصيبة الأليمة والفاجعة الراتبة، ونُعزّي مراجع الدين وفقهائنا الأعلام وعلمائنا العاملين بالخصوص مقام ولي أمر المسلمين القائد الخامنئي .

علمُ أهلِ البيت m:

قد اتفق المسلمون على أعلميّة أمير المؤمنين o وفضله، وقد قال في حقِّه رسول الله K: " أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ". أو " أنا مدينة الحكمة وعليٌّ بابها من أراد الحكمة فليأتها من بابها".

ورجوع أكثر الصحابة إليه لحلّ المعضلات من الأمور التي باتت واضحة لجميع المسلمين، ولا ينفي ذلك إلا من كان في قلبه مرضٌ أو جهل.

وهو القائل: "علّمني رسول الله K ألف بابٍ من العلم، يُفتح من كل باب ألف باب". فإذا كان إمامُ العترة o بهذا المستوى من العلم والفضل، فقد انتقل هذا المقام الرفيع والعلم الغزير إلى أبنائه الحسنِ فالحسين إلى ذريته.
قال الإمام الباقر o: قال رسول الله K: " أما والله إنّ في أهل بيتي من عترتي لهُداة مهتدين من بعدي يُعطيهم الله علمي وفهمي وحلمي وخُلُقي وطينتهم من طينتي الطاهرة، وويلٌ للمنكرين لحقّهم والمكذّبين لهم من بعدي القاطعين فيهم صلتي المستولين عليه والآخذين منهم حقّهم، ألا فلا أنالهم الله شفاعتي" [1].

والشاهد في هذه الرواية هي قوله K " ... يُعطيهم الله علمي وفهمي ... "، ففيها دلالة على أنّ علم الإمام المعصوم من علم الرسول K مع أفضليّة الرسول عليهم جميعاً بخلاف.

رواية أخيرة أذكرها وردت عن مولانا الإمام الصادق o حينما سُئل عن قول الله عزوجل: " (بل هو آياتٌ بيّنات في صُدور الذين أُوتوا العِلم) قال: هم الأئمة من آل محمّد" [2].

علم الإمام الرضا o:

إن الروايات الواردة في علم أهل البيت m وطرق هذا العلم كثيرةٌ جداً، ولا يمكننا إحصائها إلا في مجلّد عظيم، ولا يخفى أن الإمام علي الرضا o هو أحد الأئمة المنصوص عليهم ومن المعصومين المطهّرين، ومن خلال متابعة حياته الشريفة نستشهد على علمه الغزير والواسع، وأقفُ عند شاهدٍ واحد من حياته ، وهي المناظرات التي دعا إليها المأمون العبّاسي أصحاب الديانات السماويّة. وأراد من الإمام الرضا مناقشتهم والاحتجاج معهم. فإلى المناظرة:

مناظرات الإمام الرضا o مع أهل الأديان:

عن الحسن بن محمد النوفلي ثم الهاشمي يقول: لما قدم علي بن موسى الرضا oعلى المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق و رأس الجالوت و رؤساء الصابئين والهربذ الأكبر و أصحاب زردهشت و نسطاس الرومي و المتكلمين ليسمع كلامه و كلامهم فجمعهم الفضل بن سهل ثم أعلم المأمون باجتماعهم فقال: أدخلهم علي ففعل فرحب بهم المأمون ثم قال لهم إني إنما جمعتكم لخير و أحببت أن تناظروا ابن عمّي هذا المدني القادم علي فإذا كان بكرة فاغدوا علي و لا يتخلف منكم أحد.

فقالوا: السمع و الطاعة يا أمير المؤمنين نحن مبكرون إن شاء الله.

قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا o إذ دخل علينا ياسر الخادم و كان يتولى أمر أبي الحسن o فقال له: يا سيدي إن أمير المؤمنين يقرئك السلام و يقول فداك أخوك إنه أجمع إلى أصحاب المقالات و أهل الأديان و المتكلمون من جميع الملل، فرأيك في البكور إلينا إن أحببت كلامهم و إن كرهت ذلك فلا تتجشم. وإن أحببت أن نصير إليك خف ذلك علينا.

فقال أبو الحسنo: أبلغه السلام و قل له قد علمت ما أردت و أنا صائر إليك بكرة إن شاء الله.

قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما مضى ياسر التفت إلينا ثم قال لي: يا نوفلي أنت عراقي و رقة العراقي غير غليظة.

فما عندك في جمع ابن عمك علينا أهل الشرك و أصحاب المقالات؟

فقلتُ: جعلت فداك يريد الامتحان ويحب أن يعرف ما عندك و لقد بنى على أساس غير وثيق البنيان و بئس والله ما بنى.

فقال لي:  و ما بناؤه في هذا الباب؟ قلت إن أصحاب الكلام والبدعة خلاف العلماء،  وذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر و أصحاب المقالات و المتكلمون و أهل الشرك أصحاب إنكار و مباهتة إن احتججت عليهم بأن الله واحد قالوا صح وحدانيته، و إن قلت أن محمدا رسول الله ( ص ) قالوا أثبت رسالته ثم يباهتون الرجل و هو يبطل عليهم بحجته ويغالطونه حتى يترك قوله فاحذرهم جعلت فداك.

قالo: فتبسم ثم قال لي يا نوفلي أفتخاف أن يقطعوا علي حجتي؟

فقلت: لا والله ما خفت عليك قط و إني لأرجو أن يظفرك الله بهم إن شاء الله تعالى.

فقال لي: يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون؟

قلت: نعم.

قال o: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم وعلى أهل الزبور بزبورهم وعلى الصابئين بعبرانيتهم وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم وعلى أهل الروم بروميتهم وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف و دحضت حجته وترك مقالته ورجع إلى قولي علم المأمون الموضع الذي هو سبيله ليس بمستحق له فعند ذلك يكون الندامة و لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فلما أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له: جعلت فداك ، إن ابن عمك ينظرك وقد اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه فقال له الرضا o: تقدمني فإني صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله.

ثم توضأ وضوء للصلاة و شرب شربة سويق وسقانا منه ثم خرج و خرجنا معه حتى دخلنا على المأمون و إذا المجلس غاص بأهله ومحمد بن جعفر وجماعة من الطالبيين و الهاشميين والقواد حضور.

فلما دخل الرضاo قام المأمون وقام محمد بن جعفر و جميع بني هاشم فما زالوا وقوفا والرضاoجالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدثه ساعة ثم التفت إلى الجاثليق فقال:

يا جاثليق، هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر وهو من ولد فاطمة بنت نبينا و ابن علي بن أبي طالب o فأحب أن تكلمه أو تحاجّه و تنصفه.

فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين، كيف أحاجّ رجلاً يحتجُّ عليَّ بكتابٍ أنا منكره ، ونبيٌّ لا أومن به ؟!

فقال له الرضا o: يا نصراني فإن احتججتُ عليكَ بإنجيلك أتقرُّ به؟!

قال الجاثليق وهل أقدر على رفع ما نطق به الإنجيل؟ نعم، واللهِ أقرُّ به على رغم أنفي.

فقال له الرضا o: سل عمّا بدا لك واسمع الجواب.

فقال الجاثليق: ما تقول في نبوة عيسى و كتابه هل تنكر منهما شيئاً؟!

قال الرضا o: أنا مقرٌّ بنبوة عيسى و كتابه وما بشّر به أمته. وأقرّت به الحواريون و كافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد K وبكتابه و لم يبشر به أمته.

قال الجاثليق: أليس إنما نقطع الأحكام بشاهد يعدل؟

قال o: بلى.

قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوة محمد (ص) ممن لا تنكره النصرانية و سلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا.

قال الرضا o: الآن جئت بالنصفة يا نصراني، ألا تقبل مني العدل المقدم عند المسيح عيسى ابن مريم p؟

قال الجاثليق: ومن هذا العدل؟ سمّه لي.

قال o: ما تقول في يوحنا الديلمي؟

قال: بخٍ بخٍ ذكرت أحب الناس إلى المسيح.

قالo: فأقسمتُ عليكَ، هل نطق الإنجيل أنّ يوحنا قال: " إنما المسيح أخبرني بدين محمد العربي وبشرني به أنه يكون من بعده فبشرت به الحواريين فآمنوا به".

قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشّر بنبوة رجل وبأهل بيته ووصيه و لم يلخص متى يكون ذلك، ولم تسمّ لنا القوم فنعرفهم.

قال الرضا o: فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته و أمته أتؤمن به.

قال: سديدا.

قال الرضا o لنسطاس الرومي: كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟

قال: ما أحفظني له. ثم التفت إلى رأس الجالوت.

فقالo: ألستَ تقرأ الإنجيل؟

قال: بلى لعمري.

قال o: فخذ على السفر فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته وأمته، فاشهدوا لي وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي.

ثم قرأ oالسفر الثالث حتى بلغ ذكر النبي K وقف، ثم قال: يا نصراني إني أسألك بحق المسيح وأمه، أتعلم أني عالم بالإنجيل؟

قال: نعم، ثم تلا علينا ذكر محمد وأهل بيته وأمته، ثم قال: ما تقول يا نصراني هذا قول عيسى ابن مريم o فإن كذبت بما ينطق به الإنجيل فقد كذبت موسى وعيسى p ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل لأنك تكون قد كفرت بربك و نبيك وبكتابك.

قال الجاثليق: لا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل، وإني لمقر به.

قال الرضا o: اشهدوا على إقراره. ثم قال يا جاثليق: سل عما بدا لك.

قال الجاثليق: أخبرني عن حواري عيسى ابن مريم p كم كان عدتهم وعن علماء الإنجيل كم كانوا ؟

قال الرضا o: على الخبير سقطت، أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلاً وكان أعلمهم و أفضلهم ألوقا، و أما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال يوحنا الأكبر باج و يوحنا بقرقيسيا و يوحنا الديلمي برجاز، وعنده كان ذكر النبي K و ذكر أهل بيته و أمته وهو الذي بشّر أمه عيسى وبني إسرائيل به

ثم قال o له: يا نصراني واللهِ إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد K و ما ننقم على عيساكم شيئا إلا ضعفه وقلة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق: أفسدتَ والله علمك وضعفت أمرك و ما كنتُ ظننت إلا أنك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضا o: و كيف ذاك؟

قال الجاثليق: من قولك أن عيسى كان ضعيفا قليل الصيام، قليل الصلاة ، وما أفطر عيسى يوماً قط و لا نام بليل قط ، وما زال صائم الدهر وقائم الليل.

قال الرضا o: فلمن كان يصوم ويصلي؟

قال (الراوي): فخرس الجاثليق وانقطع.

قال الرضا o: يا نصراني أسألك عن مسألة.

قال: سل فإن كان عندي علمها أجبتك.

قال الرضا o: ما أنكرت أن عيسى o كان يحيي الموتى بإذن الله !؟

قال الجاثليق: أنكرتُ ذلك من أجل أن من أحيا الموتى و أبرأ الأكمه و الأبرص فهو رب مستحق لأن يعبد.

قال الرضا o: فإن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى o مشى على الماء و أحيا الموتى و أبرأ الأكمه والأبرص، فلم تتخذه أمته رباً ولم يعبده أحد من دون الله !!
ولقد صنع حزقيل النبي oمثل ما صنع عيسى ابن مريم فأحيا خمسة و ثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة ثم التفت إلى رأس الجالوت.

فقال له: يا رأس الجالوت أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة اختارهم بخت ‏نصر من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس ثم انصرف بهم إلى بابل فأرسله الله ! إليهم فأحياهم هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكم.

قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه.

قال o: صدقت. ثم قال: يا يهودي خذ على هذا السفر من التوراة فتلا ( ع ) علينا من التوراة آيات.

فأقبل اليهودي يترجج لقراءته ويتعجب ثم أقبل على النصراني.

فقال: يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم؟

قال: بل كانوا قبله.

فقال الرضا o: لقد اجتمعت قريش على رسول الله K فسألوه أن يحيي لهم موتاهم فوجه معهم علي بن أبي طالب o فقال له:

اذهب إلى الجبّانة فنادِ بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك يا فلان ويا فلان ويا فلان.
يقول لكم محمد رسول الله K قوموا بإذن الله ! فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش يسألهم عن أمورهم ثم أخبروهم أن محمدا قد بعث نبيا فقالوا:  وددنا أنا أدركناه فنؤمن به.
ولقد أبرأ الأكمه والأبرص والمجانين و كلمه البهائم و الطير و الجن و الشياطين و لم نتخذه ربا من دون الله عزوجل و لم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم.

فمتى اتخذتم عيسى ربا جاز لكم أن تتخذوا اليسع و حزقيل رباً لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى ابن مريم p من إحياء الموتى و غيره.

وإن قوما من بني إسرائيل خرجوا من بلادهم من الطاعون و هم ألوف حذر الموت فأماتهم الله في ساعة واحدة، فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة، فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم و من كثرة العظام البالية، فأوحى الله ! إليه: " أتحب أن أحييهم لك فتنذرهم ".

قال: نعم يا رب، فأوحى الله عزوجل إليه أن نادهم.

فقال أيتها العظام البالية قومي بإذن الله عزوجل فقاموا أحياء أجمعون ينفضون التراب عن رءوسهم ثم إبراهيم خليل الرحمن o حين أخذ الطير فقطعهن قطعاً ثم وضع على كل جبل منهن جزءاً ثم ناداهن فأقبلن سعيا إليه.
ثم موسى بن عمران o  و أصحابه السبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل، فقالوا له: إنك قد رأيت الله * فأرناه كما رأيته فقال o لهم: إني لم أره.

فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم و بقي موسى وحيدا.
فقال o: يا رب اخترت سبعين رجلاً من بني إسرائيل، فجئتُ بهم وأرجع وحدي فكيف يصدقني قومي بما أخبرهم به، فلو شئت أهلكتهم من قبل و إياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا فأحياهم الله ! من بعد موتهم و كل شي‏ء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه ، لأن التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان قد نطقت به.

فإن كان كلّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يتخذ رباً من دون الله فاتخذ هؤلاء كلهم أربابا. ما تقول يا يهودي؟

فقال الجاثليق: القول قولك ولا إله إلا الله ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال ... إلى آخر القصّة.
من أراد قراءة المناظرة بأكملها فعليه الرجوع إلى كتاب (عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ) تحت باب 12 / ذكر مجلس الرضا (عليه السلام) مع أهل الأديان وأصحاب المقالات في التوحيد عند المأمون.




[1] أصول الكافي: ج1 ص209، كتاب الحجّة، باب ما فرض الله ورسوله مع الكون مع الأئمة ح5.
[2] بحار الأنوار: ج23 ص 200 ، كتاب الإمامة، باب أنهم (عليهم السلام) أهل علم القرآن الحديث 34.



ليست هناك تعليقات: