مقدّمة:
لا يختلف أصحاب الديانات السماوية احتواء الذات المقدّسة لجملة من الصفات، التي يجب توفّرها في الذات المقدّسة، ومن تلك الصفات التي لا تنفكّ عن الذات المقدّسة صفة العلم.
فالله العالم بجميع شؤون عالم الإمكان وبكل الخصوصيات وبجميع الأزمان والعوالم، وهو الواجد لهذه الصفة على النحو المطلق، وهو العالم بجميع مصالح العباد وما يُفسد عليهم أمورهم وحياتهم، ومن هذا المنطلق بعث الله النبيين والمرسلين ليقوموا بالعدل والقسط وينفّذوا الشريعة التي أنزلها على هؤلاء الأنبياء.
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[1].
وهذا الأمر لا يختصُّ بالأنبياء والرسل، بل يشمل كلُّ من يخلفهم في رسالتهم، ويستمرّون في إحياء شريعته وحفظها من شُبُه المدلسين، وضلال الضالّين.
فلو قلنا بأنَّ الأنبياء تتوقّف حركتهم برحيلهم عن دار الدنيا وينتقلون إلى العالم الآخر، فهذا يلزم منه أحد أمرين:
فإمّا أن يترك الأمة من دون تحديد لهم أي خليفة يستخلف القوم أو يحدّد لهم شخص يقوم مقامه ويخلفه في قومه حتّى يواصل في أداء شريعته وحفظها والمسير عليها.
أما الأول فباطل. لأنّ الترك من دون تحديد يلزم منه نقض الغرض من بعثة النبي، فما فائدة البعثة إذا كانت ترحل برحيل صاحبها من دون أن يقوم بها شخص مؤهّل لهذا المقام.
فيثبت الثاني.
وإذا ثبت الأمر الثاني، نقول أيضاً يجب أن يكون القائم مقام النبي عنده من المؤهلات ليقوم بهذا المقام، ولو عُدم من هذه المؤهلات أو كان هناك شخص أفضل منه للزم تقديم المفضول على الفاضل وهو قبيح عقلاً، ووقوعه ظاهريّاً في بعض الأعصار والأزمان لا يعني صحّته.
وإذا كان اختيار النبي والرسول من الله (عزوجل) لعلمه بالقابليات والإستعدادات الكاملة، وذلك ليقوم بوظيفته وهدايته للآخرين، فلابد أن يكون الخليفة من بعده أيضاً اختيار من الله (عزوجل) لعلمه التام والكامل بالأصلح والأفضل من سائر الناس.
فإن شأن النبوة والإمامة شأنٌ إلهي وليس بيد البشر. لنفس النكتة المتقدّمة.
وممّا يؤيّد ذلك – أي كون الإختيار والتنصيب من الله (عزوجل) -ما ورد في قصص الماضين وسير المتقدّمين الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم.
الشواهد التي تؤيّد هذا الأمر:
1- قال تعالى: ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ...)[2].
فإنَّ الضمير في (إنَّا) ترجعُ إلى القائل وهو الله *. وإن الجعل والإختيار جاء من قِبل الله وليس من الناس.
2- قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً). سورة البقرة 33.
3- قال تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)[3].
4- قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[4].
نُلاحظ في الآية الأخيرة أنّ القومَ قد طلبوا من نبيّهم أن يبعث لهم ملكاً كي يُقاتلوا معه، ولكن انظروا إلى جواب نبيّهم: إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً. نُلاحظ التأكيد الواضح على أنّ من يحدّد هو الله *وليس غيره.
هذا ويمكن القول بأن النبي على ما يتميّز به من صفات ومؤهلات إلا أنّه لا يمكنه أن يختار من دون الله سبحانه، وهذا دليل على أنّ شأن الإمامة أو الخلافة هي من شؤون الله *، ولا يدخل معه أحد في التحديد.
فإذا كان النبي مع ما يتميّز به من عصمة وتأييد من الله لا يمكنه الإختيار والتحديد والتنصيب فكيف بمن هو أقل منه مرتبة في كل شيء، بل ولا يدانيه في علمه وإطلاعه ومعرفته؟!
وأيضاً نُلاحظ أمر آخر من الآية الأخيرة، أن القوم اعترضوا على اختيار الله لطالوت، فقالوا: أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحقُّ بالملك منه ولم يُؤتَ سعة من المال.
أي أنّهم اعترضوا على اختيار الله، وذكروا موازين مغايرة للحكم والملك وجعلوها بمنزلة الميزان والضابط، وليس ذلك إلا بسبب جهلهم بالحقائق.
وبعد ذلك جاءهم الجواب:
( قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ).
أي أن الإصطفاء والإنتجاب لا يكون لميزان المال والسمعة والوجاهة في المجتمع، بل الميزان للعلم والشجاعة والحكمة. وهذا هو عين ما حصل في أمة محمّد عندما أبعدوا علي ابن أبي طالب (عليه السلام)، وقالوا مثل قولهم. ولكنّهم جعلوا المعيار والميزان كبر السن. مالكم كيف تحكمون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق