الأربعاء، يناير 26، 2011

نشأة التشيّع (2)


المحور الثاني: تحديد زمن نشوء التشيّع.

   اختلفتْ وجهات نظر علماء السنة والمستشرقين في تحديد زمن نشوء التشيّع والشيعة، وتعدّدتْ الآراء إلى أقوالٍ كثيرة أهمّها خمسة أقوال، وهي:

القول الأول: أنّ ظهور التشيّع كان بعد واقعة الطف، حيثُ يعتقد أتباع هذا الرأي أن بوادر التشيّع كانت موجودة قبل واقعة الطف ولكنها لم تصلْ إلى حدّ تكوين مذهب متميّز له طابعه وخواصه، وإنما حدث ذلك بعد واقعة الطف، وكان سبب نشؤه ردةّ الفعل من مقتل الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه، ممّا أثار سخطاً على بني أميّة ورفض لحكومتها، ومنها خرجوا للطلب بثأر الإمام الحسين (عليه السلام) وهي حملة التوّابين التي قادها المختار بن يوسف الثقفي،  وهو قول أكثر المستشرقين وأغلب المحدّثين من الكُتّاب.

القول الثاني: أن التشيّع ظهر في زمن حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) وخلافته، حيثُ أن الإمام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) قد تسلّم الخلافة والإمامة وبها صار إماماً على المسلمين، ومن هنا نشأ التشيع لعلي ابن أبي طالب (عليه السلام). وهو رأي النوبختي في كتابه فرق الشيعة وابن النديم في الفهرست.

القول الثالث: وهو يذهب إلى أنَّ التشيّع نشأ أيام عثمان بن عفّان ومن آرائهم أن مؤسّس الشيعة هو عبدالله بن سبأ اليهودي، حينما تولّى عثمان خلافة المسلمين، وجاء ببني أبيه في السلطة آنذاك،  وأبعد الصحابة المؤمنين ولم يولّهم شيئاً من أمور المسلمين، بل اعتمدَ على بني أميّة في أمور المسلمين، وغيرها من الأمور التي أحدثها عثمان في حكومته، مما سبّب ردةّ فعل من قبل كبار الصحابة على عثمان وحاصروه لمدة أربعين يوماً في داره، ومنعوا عنه الماء، وغيرها من الأحداث التي جرت وهي مدوّنة في أمهات كتب التاريخ. ويزعم أصحاب هذا القول بأن إثارة المسلمين والصحابة على عثمان كان بتخطيط من عبدالله بن سبأ وبتحريض منه، وهو (أي عبدالله بن سبأ) كان يدعو إلى خلع عثمان وتولية الإمام علي ابن أبي طالب بدلاً عنه. ومن القائلين بهذا الرأي ابن حزم وجماعة آخرون، وسار على هذا الرأي النهج الأموي وأتباعهم.

القول الرابع: وهو يذهب إلى أنّ التشيّع نشأ بعد وفاة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، عندما اختلف المسلمون في الخليفة وانقسمتْ الأمة الإسلامية إلى فريقين شيعة وسُنّة.
إليك بعض كلمات علماء أهل السنة حول هذا الرأي:

1. ابن خلدون في تاريخه: " إنَّ الشيعة ظهرتْ لما توفي الرسول وكان أهل البيت يرون أنفسهم أحق بالأمر وأنَّ الخلافة لرجالهم دون سواهم من قريش، ولما كان جماعة من الصحابة يتشيّعون لعليّ ويرون استحقاقه على غيره ، ولمّا عُدل به إلى سواه تأفّفوا من ذلك".
المصدر: تاريخ ابن خلدون: ج3 ص364.

2. اليعقوبي في تاريخه: " ويُعد جماعة من المتخلّفين عن بيعة أبي بكر هم النواة الأولى للتشيّع ومن أشهرهم سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود والعباس بن عبدالمطلب".
المصدر: تاريخ اليعقوبي: ج2 ص104.
3. الدكتور أحمد أمين: " وكانت البذرة الأولى للشيعة الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي أن أهل بيته أولى الناس بأن يخلفوه".
المصدر: فجر الإسلام: ص266.

القول الخامس: وهو يقول بأن الشيعة كانتْ من  زمن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وهو من بذر بذرة التشيّع.

الرأي الصحيح:

 ولكن الرأي الصحيح من هذه الآراء هو:
أن التشيّع نشأ من زمن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والنبي الأكرم هو من أسّسَ لهذا المنهج، ولابد من إقامة الدليل على هذه الدعوى، وكما أن أصحاب الأقوال الأربعة لابد أن يقدّموا الدليل على دعواهم هذي.

ومن المهم الإلتفات إلى أمرٍ مهم في مناقشة الأقوال السابقة، وهي أن هناك فرقٌ بين انتشار التشيّع و تأصيل معتقدات الشيعة وبين أصل نشوء الشيعة ، ففي بعض الأقوال تذكر بأن زمن نشوء الشيعة كان في زمن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) –لم نذكر هذا القول في ضمن الأقوال الخمسة-ولكن الصحيح أن معتقدات المذهب الشيعي قد تأصّلت بشكلٍ أوضح وتوسّعت دائرة العقيدة عندهم في هذا الزمن، وهذا لا ينفي وجودهم في مرتبة متقدّمة على زمن الإمام الصادق (عليه السلام).


المحور الثالث: الدليل على الرأي الصحيح:

 من يرجع إلى النص القُرآني وتفاسير المسلمين يجد أن مصطلح الشيعة ولفظة الشيعة قد استعملها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في عدة مواطن، وهذا ما ينصّص عليه جملة من علماء المسلمين:

نماذج من النصوص:

مجمل هذه النصوص جاءت في تفسير وسبب لنزول الآية المباركة:
" إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية "
سورة البيّنة الآية 7.

1- ابن عساكر في تاريخه: عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي (صلى الله عليه وآله) فأقبل علي (عليه السلام) فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة).
فنزل قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية).

المصدر: ابن عساكر: التاريخ ترجمة علي(عليه السلام) ج2 ص442/ ط بيروت.

2- ابن حجر في (الصواعق المحرقة): عن ابن عباس قال: لما أنزل الله تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية). قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): (هم أنت وشيعتك تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين, ويأتي عدوك غضابا مقمحين).

ابن حجر: الصواعق المحرقة: باب11 الفصل الاول الآية 11/ ط بيروت.

3- القندوزي الحنفي في (ينابيع المودة): عن أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (علي وشيعته هم الفائزون يوم القيامة).
القندوزي: ينابيع المودة ج2 ص61/ ط بيروت.

4- الشبلنجي في(نور الأبصار): عن ابن عباس قال: لما نزلت الآية: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية).
قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): (أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة أنت وهم راضين مرضيين ويأتي أعدائك غضابا مقمحين).

الشبلنجي: نور الأبصار ص78/ ط المكتبة الشعبية .

5- الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل: أخرج بالإسناد إلى علي (عليه السلام), قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يا علي ألم تسمع قول الله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) هم شيعتك وموعدي وموعدك الحوض يدعون غرا محجلين).
الحاكم الحسكاني: شواهد التنزيل ج2 ص356/ ط بيروت.

6- الكنجي الشافعي في كفاية الطالب: عن جابر بن عبد الله, قال: كنا عند النبي (صلى الله عليه وآله) فأقبل علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال النبي (صلى الله عليه وآله): قد أتاكم أخي, ثم التفت إلى الكعبة فضربها بيده, ثم قال: والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة, ثم إنه أولكم إيمانا, وأوفاكم بعهد الله, وأقومكم بأمر الله وأعدلكم في الرعية, وأقسمكم بالسوية, وأعظمكم عند الله مزية, قال: ونزلت (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية).

الكنجي الشافعي: كفاية الطالب ص214/ ط بيروت.

7- الخوارزمي في كتاب المناقب: عن جابر, قال: كنا عند النبي (صلى الله عليه وآله) وأقبل علي (عليه السلام) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قد أتاكم أخي, ثم التفت إلى الكعبة فضربها بيده, ثم قال: والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة, ثم قال: إنه أولكم إيمانا معي وأوفاكم بعهد الله وأقومكم بأمر الله وأعدلكم في الرعية وأقسمكم بالسوية وأعظمكم عند الله مزية, قال: ونزلت فيه (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية), قال: فكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أقبل علي (عليه السلام) قالوا: قد جاء خير البرية.

الخوارزمي: المناقب ص111/ ط قم.

8- الطبري في تفسيره: عن محمد بن علي, قال: لما نزلت الآية (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية), فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنت يا علي وشيعتك.
الطبري: تفسير الطبري ج3 ص365/ ط بيروت.

9- السيوطي في الدر المنثور: عن علي, قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي: ألم تسمع قول الله تعالى (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية), أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأمم للحساب تدعون غرا محجلين.

 ونقل السيوطي عن ابن عبّاس (رضي الله عنه) أنّه قال: لمّا نزلتْ ( إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعليٍّ: هو أنتَ وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين.

وأيضاً نقل السيوطي عمّا أخرجه ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً: عليٌّ خيرُ البريّة.
السيوطي: الدر المنثور ج6 ص643/ ط بيروت.

عجائب ابن حجر الهيثمي العسقلاني:

 ذكر ابنُ حجر في صواعقه جملة من الأحاديث التي تشيرُ إلى أفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام) وكذلك الروايات الواردة في فضل شيعته وأتباعه، ولكنه لم يرق له أن يتركها من دون تعليق، فأورد على هذه الروايات جملة من التعاليق حتّى ينتصر لمذهبه.

 قال ابنُ حجر في الصواعق المحرقة: عن ابن عبّاس قال: لمّا أنزل الله تعالى: ( إن الذين آمنوا...) الآية قال رسول الله (ص) لعلي: " هم أنتَ وشيعتك تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين، ويأتي عدوّكَ غضاباً مقمحين، قال: ومن عدوّي؟ قال (ص): من تبرأ منك ولعنك".

 فأضاف قائلاً: " ولا تتوهم الرافضة والشيعة (قبّحهم الله) من هذه الروايات أنّهم محبّوا أهلَ البيت، لأنّهم أفرطوا في محبّتهم حتّى جرّهم ذلك إلى تكفير الصحابة وتضليل الأمة، وقد قال علي: يهلك فيَّ محبٌّ مفرط يقرظني بما ليس فيَّ...".

 وبعد ذلك يقول: " وشيعته أهل السُنّة، لأنّهم أحبّوهم كما أمر الله (و) أمرنا رسوله، وأمّا غيرهم فأعداؤه في الحقيقة...".

وأيضاً يضيف: " وأعداؤهم (أي أعداء أهل البيت) الخوارج ونحوهم من أهل الشام، لا معاوية ونحوه من الصحابة، لأنّهم متأوّلون فلهم أجرٌ وله وشيعته أجران (رضي الله عنهم) ".

أقول:

ماذا أقول لمن تلبّس بزيّ العلم والفهامة، إن قوله هذا يُضحكُ الثكلى، ويكفي في إبطال ما يزعمه أنه مخالفٌ للوجدان ولمن نظر بعينين للتاريخ الإسلامي، لا بعينٍ واحدة كالأحول، فيرى ما يوافق مذهبه ويترك ما يخالفه.

ومن يتأمّل يسيراً في كلمات ابن حجر يتضح له سُخف كلامه وبطلانه أساسه، كيف يمكن لابن حجر أن يقنع المسلمين بأنّ أهل السنة هم شيعة علي، وأنّهم أتباع علي ابن أبي طالب، وكتب القومِ فيها الكثير من الشواهد على أنّهم ابتعدوا عن علي ابن أبي طالب أشد الإبتعاد، حتى لا يُرموا بالتشيع والرفض ؟!
كيف يكونوا من شيعة علي ومع ذلك يحبون ويوالون عدو علي ابن أبي طالب (عليه السلام) ؟!
كيف يكونوا من شيعة علي وهم يأخذون من غير علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في علومهم وأخلاقهم وتعاليمهم ؟!
كيف وكيف وألف كيف ... يا ابن حجر؟ 

نسأل الله أن لا يسلب منّا نعمة العقل والإنصاف...


والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين (عليهم جميعاً سلامُ الله).

هناك تعليق واحد:

الشيخ حسن القصاب يقول...

نستفيد من آرائكم وتعليقاتكم...