بقلم: أبو روح الله المنامي البحراني
{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} سورة التوبة 105
الآية المباركة تُشيرُ إلى إطلاع الله على سائر أعمال الخلق، وقد يكونُ بالنسبة إلى الخالق أمراً واضحاً فهو المهيمن على عالم الإمكان أجمع، ولكن كيف يطّلع الرسولُ على أعمال الخلق أيضاً؟ ومن هؤلاء المؤمنين الذين ذكرتهم الآية المباركة؟ وكيف يطّلعون على الأعمال؟
النقطة الأولى: إن الله وجودٌ بسيط.
لقد ذكرنا فيما سبق [1] أن الموجودات على قسمين:
القسم الأوّل: الموجود المادّي.
القسم الثاني: الموجود المجرّد (البسيط).
وأنّ هناك فروق جوهرية بين القسمين أهمّها أن القسم الأول ضعيف وفقير ويحكمه المكان والزمان، فإذا كان في مكانٍ معيّن فهو خالٍ من مكان آخر، فلو كان مثلاً في الأرض فهو ليس في السماء، ولو كان في المشرق فهو خالٍ من المغرب وهذا معنى كونه محكوماً للمكان، وكذلك بالنسبة إلى الزمان، فهو محكوم للتقسيم الاعتباري –الماضي والحاضر والمستقبل-.
وأمّا القسم الثاني فهو أرفع شأناً من الأوّل، ويمكن تقسيمه إلى قسمين:
القسم الأوّل: الموجود الممكن: من قبيل الملائكة والروح والنفس والعقل. وهو من الموجودات الحادثة، أي التي كانت مسبوقةً بالعدم. (لم تكن فكانت).
القسم الثاني: الموجود الواجب: وهو المنحصر بالله !، فهو الموجود القديم، أي الذي لم يكن مسبوقاً بالعدم.
وكلا هذين القسمين من المجردات البسيطة لها أحكامها الخاصّة، فهي لا تخضعُ للزمان والمكان، والنقل والانتقال، فيمكن أن تكون في لحظة واحدة في المشرق والمغرب، ويمكن أن تكون حاضرةً في الأرض والسماء، وذلك كله لبساطتها وتجرّدها عن المادّة وأحكامها.
وإذا عرفنا هذه المقدّمة المختصرة، نعرف كيف يهيمن الخالق على عالم الإمكان، فهو وجود مجرّد بسيطٌ لا تحكمه المادّة ولا الزمان أو المكان. فيمكن للخالق أن يطّلع على سائر أعمال الخلق من دون عناءٍ، ولا تخفى عليه خافية في الليل أو النهار، وهذا ما يؤيّده القرآن الكريم بشكل واضح.
النقطة الثانية: فماذا عن الرسول؟
تُشير الآية إلى إطلاع الرسول على أعمال الخلق، فكيف يمكن للرسول الأكرم ذلك؟
الجواب: يمكننا فهم ذلك من خلال توضيح مقدّمة وهي:
إن للنبي الأكرم وجودٌ مادّي ووجودٌ معنوي (الوجود النوريّ)، أي أنّ للنبي بُعدان، بُعد بما هو بشر ومن جنس البشر، وبُعد آخر بما هو نبيّ وله مقام النبوّة والرسالة.
وتؤيّد هذا المعنى الآية المباركة {قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إلي}[2] ، فبداية الآية تُشير إلى جانب البشريّة ولكنّ الفرق بينهم وبين محمّد هو جانب الوحي.
بعد هذا البيان المختصر، وبضمّ المقدّمة المتقدّمة حول أنواع الوجودات (المادّية والمجرّدة)، فنقول بأنّ إطلاع الرسول على أعمال الخلق يكون من جانب مقامه النبويّ و الرسالي، فمن خلال الروح العالية المُودعة في الرسول يمكنه ذلك، ولا يكون محكوماً لظرف الزمان والمكان من هذه الجهة.
ويمكن الاستشهاد على هذه النقطة من القرآن الكريم قول نبيِّ الله عيسى o: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم} [3]، وهي إحاطة النبيّ عيسىo بما يفعل بنو إسرائيل في منازلهم.
لفت نظر:
قد يلتبس الأمرُ على البعض بأنّ هذه الإحاطة والعلم الذي يحصل إلى الأنبياء، ما هو مصدره؟ ومن أي يكتسبون هذه الإحاطة والمعرفة؟ هل هذه من تلقاء أنفسهم أو لها مصدر آخر؟
لا شكّ ولا ريب بأنّ العلم المطلق والهيمنة المسيطرة على جميع العوالم هي لله وحده لا شريك له، وأنّه ! مختصٌ أوّلاً وبالذات بها. وهو الذي يمنحها لمن يشاء من خلقه، سواء كانوا من جنس المجرّدات أو غيرها، كالملائكة الذين يدبّرون الأمور أو الأنبياء والأولياء الصالحين. فيكون ما عند الملائكة أو الأنبياء بالعرض، وليس بالذات كما هو عند الله !.
وهذه الإحاطة تكون من هذا القبيل، أي أنّ الله ! قد منحها وأعطاها قسم من خلق، ولا يمكننا أن نكون متشدّدين أكثر من الله !، فهو الواهب وهو المعطي وله الملك وحده، {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} [4]، فمن المعيب أن نعترض على مقامٍ لنبيٍّ أو وصيٍّ بعد أن أعطاه الله ! هذا المقام وهذه المنزلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق